آق شمس الدين - الطبيب مكتشف الميكروبات والفاتح المعنوي للقسطنطينية |
كتبنا من قبل عن عدة أطباء عظماء؛ تميزوا في الطب وبرعوا وابتكروا فيه، لكن مقالنا اليوم مختلف قليلا، فموضوعنا ليس عن طبيب وحسب، بل عن الفاتح المعنوي للقسطنطينية، عالم النبات والطب والصيدلة والعلوم الشرعية، أول من أشار إلى الميكروبات، رمز من رموز الدولة العثمانية، نكتب مقالنا اليوم عن الشيخ آق شمس الدين.
نسبه وتعليمه
هو محمد شمس الدين بن حمزة الرومي، المعروف بابن الفَنَري، ولد في دمشق عام 792 هـ (1390 م)، يتصل نسبه بالصحابي الجليل والخليفة الأول أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، حفظ القرآن الكريم وهو في السابعة من عمره، ودرس في أماسيا ثم في حلب ثم في أنقرة.
لقاؤه بالسلطان مراد الثاني وتربية ابنه محمد (الفاتح)
عندما طلب السلطان "مراد الثاني" من الشيخ حاجي بيرم ولي" أن يوصيه بمؤدب لابنه محمد الذي صار بعدها محمدًا الفاتح، كان هذا المؤدب هو الشيخ آق شمس الدين.
درّس الشيخ آق شمس الدين الأمير محمدًا الفاتح العلوم الأساسية في ذلك الوقت، وهي القرآن الكريم والسنة النبوية والفقه والعلوم الإسلامية واللغات (العربية، والفارسية، والتركية) وعلوم الرياضيات، والفلك، والتاريخ والحرب.
كان السلطان "مراد الثاني" قد ولى ابنه محمدا إمارة مغنيسيا ليتدرب على الولاية وأصول الحكم، فكان الشيخ آق شمس الدين من ضمن العلماء الذين رافقوه وأشرفوا عليه في ولايته.
كان الشيخ آق شمس الدين يعمل دائما على غرس الحديث النبوي: "لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش" في الأمير محمد في صغره وأنه المقصود بذلك الحديث، وبالفعل اقتنع الأمير بذلك، وفتح الله على يديه المدينة التي استعصت على من قبله لقرون.
قصته مع فتح القسطنطينية
عندما أصبح الأمير محمد السلطان العثماني -وكان حينها في الثانية والعشرين من عمره- وجهه الشيخ فورا إلى التحرك بجيوشه لتحقيق الحديث النبوي، فحاصر العثمانيون القسطنطينية برا وبحرا، ودارت الحرب 54 يوما.
وعندما حقق البيزنطيون انتصارا مؤقتا وابتهجوا بدخول أربع سفن أرسلها البابا إليهم، اجتمع الأمراء والوزراء العثمانيون وقابلوا السلطان محمدا وقالوا له مستنكرين:
"إنك دفعت بهذا القدر الكبير م العساكر إلى هذا الحصار جريا وراء كلام أحد المشايخ -يعنون آق شمس الدين- فهلكت الجيوش وفسد كثير من العتاد ثم زاد الأمر على هذا بأن أتى العون من بلاد الفرنج الكافرين داخل القلعة، ولم يعد هناك أمل في هذا الفتح".
فأرسل السلطان محمد وزيره أحمد باشا إلى الشيخ آق شمس الدين في خيمته يسأله الحل فأجاب قائلا: "لا بد أن يمن الله بالفتح".
لم يكن هذا الجواب شافيا للسلطان، فأرسل الوزير مرة أخرى ليطلب التوضيح، فكتب له الشيخ رسالة يقول فيها:
"هو المعز الناصر.. إن حادث تلك السفن قد أحدث في القلوب التكسير والملامة، وأحدث في الكفار الفرح والشماتة. إن القضية الثابتة هي: إن العبد يدبر والله يقدر والحكم لله.. ولقد لجأنا إلى الله وتلونا القرآن الكريم وما هي إلا سنة من النوم بعد، إلا وقد حدثت ألطاف الله تعالى فظهرت من البشارات ما لم يحدث مثلها من قبل "
أحدث هذا الخطاب الطمأنينة والراحة في الجنود، وقرر مجلس الحرب العثماني الاستمرار في الحرب لفتح القسطنطينية، ثم توجه السلطان إلى خيمة شيخه فقبل يده وقال: علمني يا سيدي دعاء أدعو الله به ليوفقني، فعلمه الشيخ دعاء، وخرج السلطان من خيمة شيخه ليأمر بالهجوم العام.
فتح القسطنطينية |
أراد السلطان أن يكون شيخه بجانبه أثناء الهجوم فأرسل إليه يستدعيه لكن الشيخ كان قد طلب ألا يدخل عليه أحد ومنع حراس الخيمة رسول السلطان، فغضب السلطان وذهب بنفسه إلى الخيمة ليستدعيه، فمنع الحراس السلطان من الدخول بناء على أمر الشيخ، فأخد السلطان خنجره وشق الخيمة في جانبها ونظر إلى الداخل، فرأى شيخه ساجدا لله في سجدة طويلة وعمامته متدحرجة من على رأسه وشعر رأسه الأبيض يتدلى على الأرض، ثم رأى الشيخ يقوم من سجدته والدموع تنحدر على خديه، فقد كان يدعو الله بالنصر.
عاد السلطان بعدها إلى مقر قيادته ونظر إلى الأسوار المحاصرة فإذا بالجنود العثمانيين قد أحدثوا ثغرات بالسور تدفق منها الجنود إلى القسطنطينية.
ففرح بذلك السلطان وقال:
ليس فرحي لفتح المدينة، إنما فرحي بوجود مثل هذا الرجل في زمني.
وعندما دخلت الجيوش المدينة، تقدم الشيخ للسلطان محمد الفاتح ليذكره بشريعة الله في الحرب، وبحقوق الأمة المفتوحة في الشريعة الإسلامية.
بعد الفتح نهض الشيخ آق شمس الدين وخطب في الجند قائلا:
"يا جنود الإسلام، اعلموا واذكروا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في شأنكم: "لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجيش"، ونسأل الله سبحانه أن يوفقنا ويغفر لنا. ألا لا تسرفوا فيما أصبتم من أموال الغنيمة، ولا تبذروا، وأنفقوها في البر والخير لأهل المدينة، واسمعوا لسلطانكم وأطيعوه وأحبوه".
ثم التفت إلى محمد الفاتح وقال: "يا سلطاني، لقد أصبحت قرة عين آل عثمان، فكن على الدوام مجاهدا في سبيل الله"، ثم صاح مكبرا ف صوت جهوري جليد.
وقد وجد الشيخ قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري بالقرب من سور القسطنطينية، وكان أول من يخطب الجمعة في مسجد آيا صوفيا.
علوم آق شمس الدين
كان آق شمس الدين -بجانب تبحره في علوم الدين- عالما في النبات والطب والصيدلة، وكان مشهورا في زمانه بالعلوم الدنيوية وبحوثه في علم النبات ومدى مناسبتها للعلاج من الأمراض، وصار مثلا بين الناس حتى قالوا: "إن النبات ليحدث آق شمس الدين".
جهوده في علم الطب
اهتم الشيخ آق شمس الدين اهتمامًا خاصًا بالأمراض المعدية، فقد كانت هذه الأمراض في عصره تتسبب في موت الآلاف، وألّف في ذلك كتابًا بالتركية بعنوان "مادة الحياة" قال فيها:
ومن الخطأ تصوّر أن الأمراض تظهر على الأشخاص من تلقاء نفسها، فالأمراض تنتقل من شخص إلى آخر بطريق العدوى، هذه العدوى صغيرة ودقيقة إلى درجة العجز عن رؤيتها بالعين المجردة، لكن هذا يحدث بواسطة بذور حية.
وبذلك وضع الشيخ آق شمس الدين تعريف الميكروب في القرن الخامس عشر الميلادي. وهو أول من فعل ذلك، ولم يكن الميكروسكوب قد ظهر بعد، ثم وبعد أربعة قرون من حياة الشيخ آق شمس الدين جاء الكيميائي والبيولوجي الفرنسي "لويس باستور" ليقوم بأبحاثه، ويصل إلى نفس النتيجة.
اهتم الشيخ أيضا بالسرطان وكتب عنه وله في الطب كتابان هما: "مادة الحياة"، و"كتاب الطب"، وهما باللغة التركية العثمانية، وله باللغة العربية سبعة كتب هي: "الرسالة النورية"، و"رسالة في ذكر الله"، و"حل المشكلات"، و"مقالات الأولياء"، و"تلخيص المتائن" و"دفع المتائن" و"رسالة في شرح حاجي بيرم ولي".
آق شمس الدين |
إن الشيخ آق شمس الدين مثال واضح ينفي وجود تعارض بين الدين والعلوم الدينية وبين العلوم الدنيوية، فلم يمنعه كونه شيخا وعالما بالعلوم الشرعية من أن يكون عالما فاضلا في النبات والطب والصيدلة، ويسبق بذلك غيره بقرون.
وفاته
عاد الشيخ إلى موطنه كونيوك بعد أن أحس بالحاجة إلى ذلك رغم إصرار السلطان على بقائه في إسطنبول، ومات -رحمه الله- سنة 873هـ، بعد رحلة طويلة من الزهد والعلم والجهاد في سبيل الله.
المصادر
- كتاب الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط للدكتور محمد علي الصلابي
- كتاب 100 من عظماء أمة الإسلام غيروا مجرى التاريخ للكاتب جهاد التُرباني
شاركنا برأيك أو سؤالك